فصل: بحر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الموسوعة الفقهية / الجزء الثامن

بئر

انظر‏:‏ آبار‏.‏

بئر بضاعة

انظر‏:‏ آبار‏.‏

باءة

التّعريف

1- الباءة لغةً‏:‏ النّكاح، كنّي به عن الجماع‏.‏ إمّا لأنّه لا يكون إلاّ في المنزل غالباً، أو لأنّ الرّجل يتبوّأ من أهله - أي يستمكن منها - كما يتبوّأ من داره‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «يا معشرَ الشّباب، من استطاعَ منكم البَاءَةَ فَلْيَتَزوّجْ، فإنّه أَغَضُّ للبصرِ وأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ‏.‏ ومن لم يستطعْ فعليه بالصّومِ، فإنّه له وِجاءٌ»‏.‏

وقال شارح المنهاج‏:‏ الباءة‏:‏ مؤن النّكاح‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

2 - أ - الباءة‏:‏ هو الوطء‏.‏

ب - أهبة النّكاح‏:‏ القدرة على مؤنه من مهرٍ وغيره، فهي بمعنى الباءة على قول من فسّر الحديث بذلك‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - الباءة بمعنى الوطء تنظر أحكامها في موضوعها ‏(‏ر‏:‏ وطء‏)‏‏.‏

أمّا بمعنى مؤن النّكاح فإنّ من وجدها، وكانت نفسه تتوق إلى الوطء، ولا يخشى الوقوع في المحرّم، استحبّ له النّكاح‏.‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّجْ‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ فإن كان يتحقّق الوقوع في المحظور، فيفترض عليه النّكاح، لأنّه يلزمه إعفاف نفسه، وصونها عن الحرام‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ ولأنّ ما لا يتوصّل إلى ترك الحرام إلاّ به يكون فرضاً‏.‏

أمّا إن وجد الأهبة، وكان به مرض كهرمٍ ونحوه، فإنّ من الفقهاء من كره له النّكاح، ومنهم من قال بحرمته لإضراره بالمرأة‏.‏ ويختلف الفقهاء في حكم النّكاح بالنّسبة لمن وجد الباءة، ولم تتق نفسه للوطء، منهم من يرى أنّ النّكاح أفضل‏.‏ ومنهم من يرى أنّ التّخلّي للعبادة أفضل، وتفصيل ذلك كلّه يذكره الفقهاء في أوّل كتاب النّكاح‏.‏

بادي

انظر‏:‏ بدو‏.‏

بازلة

التّعريف

1 - من معاني البزل في اللّغة‏:‏ الشّقّ‏.‏ يقال‏:‏ بزل الرّجل الشّيء يبزله بزلاً‏:‏ شقّه‏.‏ والبازلة من الشّجاج‏:‏ هي الّتي تبزل الجلد، أي تشقّه، يقال انبزل الطّلع‏:‏ أي تشقّق‏.‏

أمّا في استعمال الفقهاء‏:‏ فهي الّتي تشقّ الجلد ويرشح منها الدّم‏.‏

وسمّاها بعضهم - ومنهم الحنفيّة - الدّامعة، لقلّة ما يخرج منها من الدّم، تشبيهاً بدمع العين، وسمّيت أيضاً‏:‏ الدّامية‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ في البازلة حكومة عدلٍ في العمد وغيره، وقال المالكيّة‏:‏ فيها القصاص في العمد‏.‏ ولمّا كانت البازلة من أنواع الجراح في الجنايات تكلّم الفقهاء عنها في القصاص والدّيات‏.‏ وتفصيل ذلك في أبواب الجنايات، والدّيات‏.‏

باسور

انظر‏:‏ أعذار‏.‏

باضعة

التّعريف

1- من معاني البضع في اللّغة‏.‏ الشّقّ‏.‏ يقال‏:‏ بضع الرّجل الشّيء يبضعه‏:‏ إذا شقّه‏.‏ ومنه الباضعة‏:‏ وهي الشّجّة الّتي تشقّ اللّحم بعد الجلد، ولا تبلغ العظم،ولا يسيل بها الدّم‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - الباضعة من أنواع الجراح في الرّأس، وقد تكلّم الفقهاء عن حكمها في الجنايات والدّيات، وتفصيلها فيهما‏.‏ فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ فيها حكومة عدلٍ في العمد وغيره، وهي ما يقدّره أهل الخبرة تعويضاً عن الجناية، بما لا يزيد عن دية أصل العضو المصاب‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ فيها القصاص في العمد‏.‏

باطل

انظر‏:‏ بطلان‏.‏

باغي

انظر‏:‏ بغاةً‏.‏

بتات

التّعريف

1 - البتات في اللّغة‏:‏ القطع المستأصل‏.‏ يقال‏:‏ بتتّ الحبل‏:‏ أي قطعته قطعاً مستأصلاً‏.‏ ويقال‏:‏ طلّقها ثلاثاً بتّةً وبتاتاً‏:‏ أي بتلةً بائنةً، يعني قطعاً لا عود فيها‏.‏ ويقال‏:‏ الطّلقة الواحدة تبتّ وتبتّ‏:‏ أي تقطع عصمة النّكاح إذا انقضت العدّة، كما يقال‏:‏ حلف على ذلك يميناً بتّاً وبتّةً وبتاتاً‏:‏ أي يميناً قد أمضاها‏.‏ ومثل البتات‏:‏ البتّ، وهو مصدر بتّ‏:‏ إذا قطع‏.‏ يقال‏:‏ بتّ الرّجل طلاق امرأته، وبتّ امرأته‏:‏ إذا قطعها عن الرّجعة‏.‏ وأبتّ طلاقها كذلك‏.‏ ويستعمل الفعلان‏:‏ بتّ وأبتّ لازمين كذلك، فيقال‏:‏ بتّ طلاقها، وأبتّ، وطلاق باتّ ومبتّ، كما يستعمل البتّ بمعنى الإلزام فيقال‏:‏ بتّ القاضي الحكم عليه‏:‏ إذا قطعه، أي ألزمه، وبتّ النّيّة‏:‏ جزمها‏.‏

ولا تختلف معاني هذه الألفاظ في الفقه عنها في اللّغة، إلاّ أنّ الشّافعيّة يوقعون الطّلاق بلفظ ‏"‏ ألبتّة ‏"‏ رجعيّاً إن كانت المطلّقة مدخولاً بها، ونوى بها أقلّ من الثّلاث‏.‏

كما أنّهم يعبّرون عن خلوّ العقد عن الخيار بالبتّ فيقال‏:‏ البيع على البتّ‏.‏

وهو راجع إلى المعنى اللّغويّ كما لا يخفى‏.‏ وكذا يعبّرون عن المعتدّة الّتي طلقت ثلاثاً، أو فرّق بينها وبين زوجها بخيار الجبّ والعنّة ونحوهما بمعتدّة البتّ، وهي خلاف الرّجعيّة‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى وقوع الطّلاق ثلاثاً، فيمن طلّق زوجته بقوله‏:‏ هي بتّة، لأنّه طلّق امرأته بلفظٍ يقتضي البينونة‏.‏ والبتّ‏:‏ هو القطع، فكأنّه قطع النّكاح له، واحتجّوا على ذلك بعمل الصّحابة‏.‏

وعند الحنفيّة يقع واحدةً بائنةً، لأنّه وصف الطّلاق بما يحتمل البينونة‏.‏

وقال الشّافعيّ‏:‏ يرجع إلى ما نواه‏.‏ وهي رواية عند الحنابلة اختارها أبو الخطّاب منهم‏.‏ وتمام الكلام على ذلك محلّه كتاب الطّلاق‏.‏

مواطن البحث

3 - تعرّض الفقهاء للبتات - ومثله بقيّة المصادر والمشتقّات - في كتاب الطّلاق، في الكلام على ألفاظ الطّلاق كما سبق‏.‏ كما تعرّضوا في كتاب العدّة لمعتدّة البتّ، وهل عليها الإحداد ‏؟‏‏.‏ وفي الظّهار يذكرون أنّ البتات يلزم الزّوجة إن ظاهر منها زوجها بلفظٍ كنائيٍّ، ونوى به الطّلاق، على تفصيلٍ في ذلك‏.‏ وفي الأيمان ذكروا معنى الحلف على البتّ، ومقابله الحلف على العلم، أو على نفي العلم، ومتى يحلف الحالف على البتّ‏.‏ وفي الشّهادة ذكروا بيّنة البتّ، ومقابلها بيّنة السّماع، ومتى تقدّم الأولى على الثّانية‏.‏ وفي البيع تعرّضوا لذكر البيع على البتّ، باعتباره مقابلاً للخيار فيه‏.‏

بتر

التّعريف

1 - البتر لغةً‏:‏ استئصال الشّيء بالقطع، يقال‏:‏ بتر الذّنب أو العضو‏:‏ إذا قطعه واستأصله، كما يطلق على قطع الشّيء دون تمامٍ، بأن يبقى من العضو شيء‏.‏

وقد استعمل اصطلاحاً بهذين المعنيين عند الفقهاء‏.‏ وقد يطلق على كلّ قطعٍ، ومنه قولهم‏:‏ سيف بتّار أي قاطع‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - البتر إمّا أن يكون عدواناً بجنايةٍ، عمداً أو خطأً، وذلك محرّم‏.‏

وإمّا أن يكون بحقٍّ، كقطع اليد حدّاً أو قصاصاً‏.‏

وإمّا أن يكون من وسائل العلاج بقطع اليد المصابة بالآكلة لمنع السّراية للبدن‏.‏

تطهير موضع البتر

3 - من قُطعتْ يده من دون المرفق غسل ما بقي من محلّ الفرض، وإن قطعت من المرفق غسل العظم الّذي هو طرف العضد، لأنّ غسل العظمين المتلاقيين من الذّراع والعضد واجب، فإذا زال أحدهما غسل الآخر‏.‏ وإن كان من فوق المرفقين سقط الغسل لعدم محلّه‏.‏ وللتّفصيل ينظر ‏(‏الوضوء، والغسل‏)‏‏.‏

بتر الأعضاء لضرورةٍ‏:‏

4 - يجوز بتر عضوٍ فاسدٍ من أعضاء الإنسان، خوفاً على سلامة الجسم من انتشار العلّة في الجميع‏.‏ والتّفصيل في ‏(‏طبّ، وتداوٍ‏)‏‏.‏

بتر الأعضاء في الجنايات

5 - بتر أعضاء الغير عمداً عدواناً يجب فيه القصاص، بشروطه المبيّنة في مباحث القصاص فيما دون النّفس، وقد يعدل عن القصاص لأسبابٍ معيّنةٍ تذكر في موضعها‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ قصاص - جنايات‏)‏‏.‏ أمّا بتر العضو خطأً فتجب فيه الدّية المقدّرة لذلك العضو شرعاً أو الأرش بالاتّفاق‏.‏ ويختلف مقدارها باختلاف العضو المبتور‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ ديات‏)‏‏.‏

أعضاء الحيوان المبتورة

6 - ما بتر من أعضاء الحيوان الحيّ المأكول اللّحم حكمه حكم ميتته، في حلّ أكله وفي نجاسته أو طهارته‏.‏ فلو قطع طرف شاةٍ أو فخذها لم يحلّ، ولو ضرب سمكةً فقطع جزءاً منها حلّ أكله، لأنّ ميتتها حلال، وذلك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما قُطِعَ من البَهِيمَةِ - وهي حيّة - فهو كَمَيْتٍ»‏.‏

وهذا على خلافٍ وتفصيلٍ يذكر في موضعه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ صيد‏:‏ ذبائح‏)‏‏.‏

وما بتر من أعضاء الإنسان حكمه حكم الإنسان الميّت في الجملة، في وجوب تغسيله وتكفينه ودفنه وفي النّظر إليه ‏(‏ر‏:‏ جنائز‏)‏‏.‏

بتراء

التّعريف

1 - البتر لغةً‏:‏ القطع، والبتراء من الشّياه‏:‏ مقطوعة الذّنب على غير تمامٍ، يقال للأنثى‏:‏ بتراء، وللذّكر‏:‏ أبتر‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ لا يختلف معناه عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - استعمل العلماء لفظة ‏"‏ بتراء ‏"‏ في الشّاة المقطوعة الألية، حيث تكلّموا عنها في الهدي والأضحيّة‏.‏ فعند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة البتر من العيوب الّتي تمنع الإجزاء في الأضحيّة والهدي‏.‏ وأمّا الحنابلة فلم يعدّوا ذلك عيباً يمنع الإجزاء ‏(‏ر‏:‏ أضحيّة، هدي‏)‏‏.‏

بتع

التّعريف

1 - البتع‏:‏ نبيذ يتّخذ من العسل في اليمن‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - ذهب الجمهور من الفقهاء إلى أنّ كلّ مسكرٍ هو خمر، يحرم شربه، ويحرم بيعه، واحتجّوا لذلك بعموم الحديث‏:‏ «كلُّ شرابٍ أَسْكر فهو حرامٌ» وبقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أَسكر كثيرُه فقليلُه حرام» وبناءً على ذلك فالبتع عندهم حرام، لأنّه ممّا يسكر كثيره‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ الخمر هي‏:‏ النّيء من ماء العنب إذا غلا واشتدّ وقذف بالزّبد، وأنّها هي المحرّمة لعينها، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «حرّمت الخمر لعينها» دون غيرها من سائر الأشربة‏.‏

قالوا‏:‏ لا يحرم شرب البتع ما دام شاربه لا يسكر منه، فإذا وصل إلى حدّ الإسكار حرم، ولذلك فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن البتع قال‏:‏ «كلّ شرابٍ أسكر فهو حرام» يعني شرب منه حتّى السّكر، ولكنّهم كرهوا شربه لدخوله في جملة ما يكره من الأشربة، ولذلك قال عنه أبو حنيفة‏:‏ البتع خمر يمانيّة‏.‏ يقصد أنّ أهل اليمن يشربون منه حتّى السّكر، وما حلّ شربه حلّ بيعه‏.‏ وتفصيل ذلك يذكره الفقهاء في كتاب الأشربة‏.‏

بتعة

انظر‏:‏ بتلة‏.‏

بتلة

التعريف‏:‏

1- بتل في اللغة‏:‏ بمعنى قطع، والمتبتل‏:‏ المنقطع لعبادة الله تعالى‏.‏ والبتلة‏:‏ المنقطعة‏.‏

ولما كان الطلاق قطعاً لحبل الزواج، حيث تصبح المرأة به منقطعة عن زوجها، فإنه قد يكنى به عن الطلاق، فيقال أنت بتلة أي طالق‏.‏ ولذلك اعتبر الفقهاء لفظ ‏"‏ بتلة ‏"‏ من كنايات الطلاق الظاهرة، ولم يكن صريحاً، لأنه قد يقصد به الانقطاع في غير النكاح‏.‏

الحكم الإجمالي

2- اتفق الفقهاء على أن لفظ ‏"‏ بتلة ‏"‏ من كنايات الطلاق، وأنه لا يقع بها الطلاق إلا بالنية -كما هي القاعدة في الكنايات - وأنه إن نوى بها واحدة وقعت واحدة، وإن نوى بها ثلاثاً وقع ثلاث، وإن أطلق فلم ينو عدداً، فمنهم من قال‏:‏ يقع واحدة، ومنهم من قال‏:‏ يقع ثلاث، وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏طلاق‏)‏‏.‏

بحح

انظر‏:‏ كلام‏.‏

بحر

التّعريف

1 - البحر‏:‏ الماء الكثير، ملحاً كان أو عذباً، وهو خلاف البرّ، وإنّما سمّي البحر بحراً لسعته وانبساطه، وقد غلب استعماله في الماء الملح حتّى قلّ في العذب‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - النّهر‏:‏

2 - النّهر‏:‏ الماء الجاري، يقال‏:‏ نهر الماء إذا جرى في الأرض، وكلّ كثيرٍ جرى فقد نهر، واستنهر ولا يستعمل النّهر غالباً إلاّ في الماء العذب، خلافاً للبحر‏.‏

ب - العين‏:‏

3 - العين‏:‏ ينبوع الماء الّذي ينبع من الأرض ويجري‏.‏ وهي من الألفاظ المشتركة، لأنّها تطلق على معانٍ أخرى‏:‏ كالجاسوس، والذّهب، والعين الباصرة‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالبحر

يتعلّق بالبحر أحكام منها‏:‏

أ - ماء البحر‏:‏

4 - اتّفق جمهور العلماء على طهوريّة ماء البحر وجواز التّطهّر به، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ «سأل رجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه إنّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضّأنا به عطشنا‏.‏ أفنتوضّأ بماء البحر ‏؟‏ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو الطَّهُورُ مَاؤُه، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»‏.‏

وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال ‏"‏ من لم يطهّره ماء البحر فلا طهّره اللّه ‏"‏ولأنّه ماء باقٍ على أصل خلقته، فجاز الوضوء به كالعذب‏.‏ وحكي عن عبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن عمرٍو أنّهما قالا في البحر‏:‏‏"‏ التّيمّم أعجب إلينا منه ‏"‏، وحكاه الماورديّ عن سعيد بن المسيّب‏:‏ أي كانوا لا يرون جواز الوضوء به‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ طهارة، ماء‏)‏‏.‏

ب - صيد البحر‏:‏

5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة صيد جميع حيوانات البحر، سواء كانت سمكاً أو غيره‏.‏ لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لكم صَيدُ البحرِ وَطَعامُه‏}‏ أي مصيده ومطعومه‏.‏

وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن ماء البحر‏:‏«هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته»‏.‏ واستثنى الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ التّمساح والضّفدع، للنّهي عن قتل الضّفدع، فقد ثبت أنّ

«النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله» وروي عن ابن عمرٍو أنّه قال‏:‏‏"‏ لا تقتلوا الضّفادع، فإنّ نقيقها تسبيح ‏"‏‏.‏ وللاستخباث في التّمساح، ولأنّه يتقوّى بنابه ويأكل النّاس‏.‏ وزاد الحنابلة‏:‏ الحيّة، وصرّح الماورديّ من الشّافعيّة بتحريمها وغيرها من ذوات السّموم البحريّة، وقصر الشّافعيّة التّحريم على الحيّة الّتي تعيش في البحر والبرّ، وأمّا الحيّة الّتي لا تعيش إلاّ في الماء فحلال‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى إباحة السّمك من صيد البحر فقط دون غيره من الحيوانات البحريّة‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏أطعمة‏)‏‏.‏

ج - ميتة البحر‏:‏

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى إباحة ميتة البحر، سواء كانت سمكاً أو غيره من حيوانات البحر، لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لكم صيدُ البحرِ وطعامُه‏}‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته»، وعن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنّه قال‏:‏‏"‏ كلّ دابّةٍ تموت في البحر فقد ذكّاها اللّه لكم ‏"‏‏.‏

ولم يبح الحنفيّة إلاّ ميتة السّمك الّذي مات بآفةٍ، وأمّا الّذي مات حتف أنفه، وكان غير طافٍ، فليس بمباحٍ‏.‏ وحدّ الطّافي عندهم‏:‏ ما كان بطنه من فوق، فلو كان ظهره من فوق، فليس بطافٍ فيؤكل‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏أطعمة‏)‏‏.‏

د - الصّلاة في السّفينة‏:‏

7 - اتّفق الفقهاء على جواز الصّلاة في السّفينة من حيث الجملة، شريطة أن يكون المصلّي مستقبلاً للقبلة عند افتتاح الصّلاة، وأن يدور إلى جهة القبلة إن دارت السّفينة لغيرها إن أمكنه ذلك، لوجوب الاستقبال‏.‏ ولا فرق في ذلك بين الفريضة والنّافلة لتيسّر استقباله‏.‏ وخالف الحنابلة في النّافلة، وقصروا وجوب الدّوران إلى القبلة على الفريضة فقط، ولا يلزمه أن يدور في النّفل للحرج والمشقّة، وأجازوا كذلك للملّاح‏:‏ ألاّ يدور في الفرض أيضاً لحاجته لتسيير السّفينة‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏قبلة‏)‏‏.‏

هـ – حكم من مات في السّفينة‏:‏

8 - اتّفق الفقهاء على أنّ من مات في سفينة في البحر، وأمكن دفنه لقرب البرّ، ولا مانع، لزمهم التّأخير ليدفنوه فيه، ما لم يخافوا عليه الفساد، وإلاّ غسّل وكفّن وصلّي عليه وألقي في البحر‏.‏

وزاد الشّافعيّة‏:‏ أنّه يوضع بعد الصّلاة عليه بين لوحين لئلاّ ينتفخ، ويلقى لينبذه البحر إلى السّاحل، لعلّه يقع إلى قومٍ يدفنونه‏.‏ فإن كان أهل السّاحل كفّاراً ثقّل بشيءٍ ليرسب‏.‏

فإن لم يوضع بين لوحين ثقّل بشيءٍ لينزل إلى القرار، وإلى تثقيله ذهب الحنابلة أيضاً‏.‏

و - الموت غرقاً في البحر‏:‏

9 - ذهب العلماء إلى أنّه من مات في البحر غرقاً، فإنّه شهيد، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الشّهداء خمسة‏:‏ المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشّهيد في سبيل اللّه»‏.‏

وإذا وجد الغريق فإنّه يغسّل ويكفّن ويصلّى عليه كأيّ ميّتٍ آخر، وإذا لم يعثر عليه فيصلّى عليه صلاة الغائب عند الشّافعيّة والحنابلة، وكرهها المالكيّة، ومنعها الحنفيّة لاشتراطهم لصلاة الجنازة حضور الميّت أو حضور أكثر بدنه أو نصفه مع رأسه‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ غسل‏)‏

بخار

التّعريف

1 - البخار لغةً واصطلاحاً‏:‏ ما يتصاعد من الماء أو النّدى أو أيّ مادّةٍ رطبةٍ تتعرّض للحرارة‏.‏ ويطلق البخار أيضاً على‏:‏ دخان العود ونحوه‏.‏ وعلى‏:‏ كلّ رائحةٍ ساطعةٍ من نتنٍ أو غيره‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

البخر‏:‏

2 - البخر هو‏:‏ الرّائحة المتغيّرة من الفم‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ البخر‏:‏ النّتن يكون في الفم وغيره، وهو أبخر، وهي بخراء‏.‏

واستعمال الفقهاء للبخر مخصوص بالرّائحة الكريهة في الفم فقط‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالبخار

للبخار أحكام خاصّة، فقد يكون طاهراً، وقد يكون نجساً، وينبني عليه جواز أو عدم جواز التّطهّر بما تقاطر من البخار‏.‏

أ - رفع الحدث بما جمع من النّدى‏:‏

3 - ذهب الفقهاء إلى جواز التّطهّر بالنّدى، وهو المتجمّع على أوراق الشّجر إذا جمع، لأنّه ماء مطلق‏.‏ أمّا ما ورد عن بعض الفقهاء من أنّ النّدى‏:‏ نفس دابّةٍ في البحر، ومن ثمّ فهل هو طاهر أو نجس ‏؟‏ فلا يعوّل عليه‏.‏

ب - رفع الحدث بما جمع من البخار‏:‏

4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التّطهّر من الحدث وتطهير النّجس بما جمع من بخار الماء الطّاهر المغليّ بوقودٍ طاهرٍ، لأنّه ماء مطلق، وهو المعتمد عند الشّافعيّة، خلافاً لما ذهب إليه الرّافعيّ منهم إلى أنّه لا يرفع الحدث، لأنّه لا يسمّى ماءً، بل هو بخار‏.‏

أمّا البخار المتأثّر بدخان النّجاسة فهو مختلف في طهارته، بناءً على اختلاف الفقهاء في دخان النّجاسة، هل هو طاهر أم نجس ‏؟‏‏.‏

فذهب الحنفيّة على المفتى به، والمالكيّة في المعتمد، وبعض الحنابلة إلى‏:‏ أنّ دخان النّجاسة وبخارها طاهران، قال الحنفيّة‏:‏ إنّ ذلك على سبيل الاستحسان دفعاً للحرج‏.‏ وبناءً على هذا فإنّ البخار المتصاعد من الماء النّجس طهور يزيل الحدث والنّجس‏.‏

وذهب الشّافعيّة، وأبو يوسف من الحنفيّة، وهو المذهب عند الحنابلة إلى‏:‏ أنّ دخان النّجاسة نجس كأصلها، وعلى هذا فالبخار المتأثّر بدخان النّجاسة نجس لا تصحّ الطّهارة به، لكن ذهب الشّافعيّة إلى أنّه يعفى عن قليله‏.‏

وأمّا البخار المتصاعد من الحمّامات وغيرها - كالغازات الكريهة المتصاعدة من النّجاسة - إذا علقت بالثّوب، فإنّه لا ينجس على الصّحيح من مذهب الحنفيّة، تخريجاً على الرّيح الخارجة من الإنسان، فإنّها لا تنجس، سواء أكانت سراويله مبتلّةً أم لا، والظّاهر أنّ بقيّة المذاهب لا تخالف مذهب الحنفيّة في هذا‏.‏

بخر

التّعريف

1 - البخر‏:‏ الرّائحة المتغيّرة من الفم من نتنٍ وغيره‏.‏ يقال‏:‏ بخر الفم بخراً من باب تعب، إذا أنتن وتغيّر ريحه، ولم يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - لمّا كان البخر في الإنسان يؤدّي إلى النّفرة والتّأذّي اعتبره الفقهاء عيباً، واتّفقوا على أنّه من العيوب الّتي يثبت بها الخيار في بيع الإماء‏.‏

وأمّا في النّكاح‏:‏ فقد اختلفوا في ثبوت الخيار والفسخ به‏.‏

فقال الحنفيّة والشّافعيّة، وهو القول الآخر للحنابلة‏:‏ لا يثبت به الخيار ولا يفرّق به بين الزّوجين‏.‏ وقال المالكيّة، وهو رأي للحنابلة‏:‏ يثبت بالبخر الخيار والفسخ في النّكاح‏.‏ وينظر تفصيل القول في ذلك في باب خيار العيب في البيوع، وباب العيب في النّكاح‏.‏

وأمّا في التّرخيص لمن به بخر في حضور الجماعات والجمع وعدمه - فيرجع في ذلك إلى باب صلاة الجماعة‏.‏

بخس

انظر‏:‏ غبن‏.‏

البخيلة

التّعريف

1 - البخيلة من مسائل العَوْل في الميراث، سمّيت بخيلةً، لأنّها أقلّ الأصول عولاً‏.‏ وتسمّى ‏(‏المنبريّة‏)‏ لأنّ عليّاً رضي الله عنه سئل عنها على المنبر‏.‏ وهي من سهام الفرائض الّتي تعول، وتأتي في المسألتين اللّتين يعول فيهما أصل أربعةٍ وعشرين إلى سبعةٍ وعشرين‏.‏

2 - المسألة الأولى‏:‏ هي الّتي يكون فيها نصف وثمن وثلاثة أسداسٍ، كزوجةٍ وبنتٍ وأبوين وبنت ابنٍ، فللزّوجة الثّمن، وللبنت النّصف، ولبنت الابن السّدس، وللأبوين السّدسان‏.‏

3 - المسألة الثّانية‏:‏ هي الّتي يكون فيها مع الثّمن ثلثان وسدسان، كزوجةٍ وبنتين وأبوين، فللزّوجة الثّمن، وللبنتين الثّلثان، وللأبوين السّدسان، ومجموعها من الأربعة والعشرين سبعة وعشرون‏.‏ وكلّ من هاتين المسألتين تسمّى البخيلة لقلّة عولها، لأنّها تعول مرّةً واحدةً‏.‏ والمسألة الثّانية تسمّى أيضاً ‏(‏المنبريّة‏)‏ لأنّ عليّاً سئل عنها وهو على المنبر فأجاب‏.‏ وللتّفصيل ينظر ‏(‏الإرث‏)‏ عند الكلام عن العول‏.‏

بدعة

التّعريف

1 - البدعة لغةً‏:‏ من بدع الشّيء يبدعه بدعاً، وابتدعه‏:‏ إذا أنشأه وبدأه‏.‏

والبدع‏:‏ الشّيء الّذي يكون أوّلاً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏:‏ ما كنتُ بِدْعاً من الرُّسُلِ‏}‏ أي لست بأوّل رسولٍ بعث إلى النّاس، بل قد جاءت الرّسل من قبل، فما أنا بالأمر الّذي لا نظير له حتّى تستنكروني‏.‏

والبدعة‏:‏ الحدث، وما ابتدع في الدّين بعد الإكمال‏.‏ وفي لسان العرب‏:‏ المبتدع الّذي يأتي أمراً على شبهٍ لم يكن، بل ابتدأه هو‏.‏ وأبدع وابتدع وتبدّع‏:‏ أتى ببدعةٍ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيّةً ابْتَدَعوها ما كَتَبْنَاها عليهم إلاّ ابْتِغَاءَ رِضْوانِ اللّه‏}‏ وبدّعه‏:‏ نسبه إلى البدعة، والبديع‏:‏ المحدث العجيب، وأبدعت الشّيء‏:‏ اخترعته لا على مثالٍ، والبديع من أسماء اللّه تعالى، ومعناه‏:‏ المبدع، لإبداعه الأشياء وإحداثه إيّاها‏.‏

أمّا في الاصطلاح، فقد تعدّدت تعريفات البدعة وتنوّعت، لاختلاف أنظار العلماء في مفهومها ومدلولها‏.‏

فمنهم من وسّع مدلولها، حتّى أطلقها على كلّ مستحدثٍ من الأشياء، ومنهم من ضيّق ما تدلّ عليه، فتقلّص بذلك ما يندرج تحتها من الأحكام‏.‏ وسنوجز هذا في اتّجاهين‏.‏

الاتّجاه الأوّل‏:‏

2 - أطلق أصحاب الاتّجاه الأوّل البدعة على كلّ حادثٍ لم يوجد في الكتاب والسّنّة، سواء أكان في العبادات أم العادات، وسواء أكان مذموماً أم غير مذمومٍ‏.‏

ومن القائلين بهذا الإمام الشّافعيّ، ومن أتباعه العزّ بن عبد السّلام، والنّوويّ، وأبو شامة‏.‏ ومن المالكيّة‏:‏ القرافيّ، والزّرقانيّ‏.‏ ومن الحنفيّة‏:‏ ابن عابدين‏.‏ ومن الحنابلة‏:‏ ابن الجوزيّ‏.‏ ومن الظّاهريّة‏:‏ ابن حزمٍ‏.‏ ويتمثّل هذا الاتّجاه في تعريف العزّ بن عبد السّلام للبدعة وهو‏:‏ أنّها فعلُ ما لم يُعْهد في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهي منقسمة إلى بدعةٍ واجبةٍ، وبدعةٍ محرّمةٍ، وبدعةٍ مندوبةٍ، وبدعةٍ مكروهةٍ، وبدعةٍ مباحةٍ‏.‏ وضربوا لذلك أمثلةً‏:‏

فالبدعة الواجبة‏:‏ كالاشتغال بعلم النّحو الّذي يفهم به كلام اللّه ورسوله، وذلك واجب، لأنّه لا بدّ منه لحفظ الشّريعة، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب‏.‏

والبدعة المحرّمة من أمثلتها‏:‏ مذهب القدريّة، والجبريّة، والمرجئة، والخوارج‏.‏

والبدعة المندوبة‏:‏ مثل إحداث المدارس، وبناء القناطر، ومنها صلاة التّراويح جماعةً في المسجد بإمامٍ واحدٍ‏.‏

والبدعة المكروهة‏:‏ مثل زخرفة المساجد، وتزويق المصاحف‏.‏

والبدعة المباحة‏:‏ مثل المصافحة عقب الصّلوات، ومنها التّوسّع في اللّذيذ من المآكل والمشارب والملابس‏.‏ واستدلّوا لرأيهم في تقسيم البدعة إلى الأحكام الخمسة بأدلّةٍ منها‏:‏

أ - قول عمر رضي الله عنه في صلاة التّراويح جماعةً في المسجد في رمضان‏"‏ نِعْمَتِ البدعةُ هذه ‏"‏‏.‏ فقد روي عن عبد الرّحمن بن عبد القاريّ أنّه قال‏:‏‏"‏ خرجت مع عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا النّاس أوزاعٌ متفرّقون، يصلّي الرّجل لنفسه، ويصلّي الرّجل فيصلّي بصلاته الرّهْطُ‏.‏ فقال عمر‏:‏ إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحدٍ لكان أمثل، ثمّ عزم، فجمعهم على أبيّ بن كعبٍ، ثمّ خرجت معه ليلةً أخرى، والنّاس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر‏:‏ نعم البدعة هذه، والّتي ينامون عنها أفضل من الّتي يقومون‏.‏ يريد آخر اللّيل‏.‏ وكان النّاس يقومون أوّله ‏"‏‏.‏

ب - تسمية ابن عمر صلاة الضّحى جماعةً في المسجد بدعةً، وهي من الأمور الحسنة‏.‏ روي عن مجاهدٍ قال‏:‏‏"‏ دخلت أنا وعروة بن الزّبير المسجد، فإذا عبد اللّه بن عمر جالس إلى حجرة عائشة، وإذا ناس يصلّون في المسجد صلاة الضّحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال‏:‏ بدعة ‏"‏‏.‏

ج - الأحاديث الّتي تفيد انقسام البدعة إلى الحسنة والسّيّئة، ومنها ما روي مرفوعاً‏:‏ «من سنَّ سُنَّةً حَسَنةً، فله أجرُها وأجرُ من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سُنّةً سيّئةً، فعليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يوم القيامة»‏.‏

الاتّجاه الثّاني‏:‏

3 - اتّجه فريق من العلماء إلى ذمّ البدعة، وقرّروا أنّ البدعة كلّها ضلالة، سواء في العادات أو العبادات‏.‏ ومن القائلين بهذا الإمام مالك والشّاطبيّ والطّرطوشيّ‏.‏ ومن الحنفيّة‏:‏ الإمام الشّمنّيّ، والعينيّ‏.‏ ومن الشّافعيّة‏:‏ البيهقيّ، وابن حجرٍ العسقلانيّ، وابن حجرٍ الهيتميّ‏.‏ ومن الحنابلة‏:‏ ابن رجبٍ، وابن تيميّة‏.‏

وأوضح تعريفٍ يمثّل هذا الاتّجاه هو تعريف الشّاطبيّ، حيث عرّف البدعة بتعريفين‏:‏

الأوّل أنّها‏:‏ طريقة في الدّين مخترعة، تضاهي الشّرعيّة، يقصد بالسّلوك عليها المبالغة في التّعبّد للّه سبحانه‏.‏ وهذا التّعريف لم يدخل العادات في البدعة، بل خصّها بالعبادات، بخلاف الاختراع في أمور الدّنيا‏.‏

الثّاني أنّها‏:‏ طريقة في الدّين مخترعة تضاهي الشّريعة يقصد بالسّلوك عليها ما يقصد بالطّريقة الشّرعيّة‏.‏ وبهذا التّعريف تدخل العادات في البدع إذا ضاهت الطّريقة الشّرعيّة، كالنّاذر للصّيام قائماً لا يقعد متعرّضاً للشّمس لا يستظلّ، والاقتصار في المأكل والملبس على صنفٍ دون صنفٍ من غير علّةٍ‏.‏ واستدلّ القائلون بذمّ البدعة مطلقاً بأدلّةٍ منها‏:‏

أ - أخبر اللّه أنّ الشّريعة قد كملت قبل وفاة الرّسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه‏:‏

‏{‏اليومَ أَكْملتُ لكم دينَكم وأَتممتُ عليكم نِعْمتي ورضيتُ لكم الِإسلامَ دِيناً‏}‏ فلا يتصوّر أن يجيء إنسان ويخترع فيها شيئاً، لأنّ الزّيادة عليها تعتبر استدراكاً على اللّه سبحانه وتعالى‏.‏ وتوحي بأنّ الشّريعة ناقصة، وهذا يخالف ما جاء في كتاب اللّه‏.‏

ب - وردت آيات قرآنيّة تذمّ المبتدعة في الجملة، من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعوه ولا تَتَّبِعُوا السُّبلَ فَتَفَرَّقَ بكم عن سبيلِهِ‏}‏‏.‏

ج - كلّ ما ورد من أحاديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في البدعة جاء بذمّها، من ذلك حديث العرباض بن سارية‏:‏ «وَعَظَنَا رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً، ذَرَفتْ منها العيونُ، وَوَجلَتْ منها القلوبُ‏.‏ فقال قائل‏:‏ يا رسولَ اللّه كأنّها موعظةُ مودِّعٍ فما تَعْهَد إلينا‏.‏ فقال‏:‏ أوصيكم بتقوى اللّه والسّمعِ والطّاعةِ لولاة الأمرِ، وإن كان عبداً حبشيّاً، فإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين، تمسّكوا بها، وعضّوا عليها بالنّواجذ، وإيّاكم ومُحْدَثاتِ الأمورِ‏.‏ فإنَّ كلّ مُحْدَثَةٍ بِدعةٌ، وكلّ بدعةٍ ضلالة»‏.‏

‏(‏د‏)‏ أقوال الصّحابة في ذلك، من هذا ما روي عن مجاهدٍ قال‏:‏‏"‏ دخلت مع عبد اللّه بن عمر مسجداً، وقد أذّن فيه، ونحن نريد أن نصلّي فيه، فثوّب المؤذّن، فخرج عبد اللّه بن عمر من المسجد، وقال‏:‏ ‏"‏ اخرج بنا من عند هذا المبتدع ‏"‏ ولم يصلّ فيه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المحدثات‏:‏

4 - الحديث نقيض القديم، والحدوث‏:‏ كون شيءٍ بعد أن لم يكن‏.‏ ومحدثات الأمور‏:‏ ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء الّتي كان السّلف الصّالح على غيرها‏.‏ وفي الحديث‏:‏

«إيّاكم ومحدثات الأمور» والمحدثات جمع محدثةٍ بالفتح، وهي‏:‏ ما لم يكن معروفاً في كتابٍ ولا سنّةٍ ولا إجماعٍ‏.‏ وعلى هذا المعنى تلتقي المحدثات مع البدعة على المعنى الثّاني‏.‏

ب - الفطرة‏:‏

5 - الفطرة‏:‏ الابتداء والاختراع‏.‏ وفطر اللّه الخلق‏:‏ خلقهم وبدأهم، ويقال‏:‏ أنا فطرت الشّيء أي‏:‏ أوّل من ابتدأه‏.‏ وعلى هذا الوجه يلتقي مع البدعة في بعض معانيها اللّغويّة‏.‏

ج - السّنّة‏:‏

6 - السّنّة في اللّغة‏:‏ الطّريقة، حسنةً كانت أو سيّئةً‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من سَنَّ سُنّةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ من عَمِل بها إلى يوم القيامة، ومن سَنّ سنّةً سيّئةً فعليه وِزْرها وَوِزْرُ من عَمِل بها إلى يوم القيامة»‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هي الطّريقة المسلوكة الجارية في الدّين المأثورة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو صحبه‏.‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي» وهي بهذا المعنى مقابلة للبدعة ومضادّة لها تماماً‏.‏

وللسّنّة إطلاقات أخرى شرعيّة اشتهرت بها، منها‏:‏ أنّها تطلق على الشّريعة كلّها، كقولهم‏:‏ الأولى بالإمامة الأعلم بالسّنّة‏.‏ ومنها‏:‏ ما هو أحد الأدلّة الأربعة الشّرعيّة، وهو ما صدر عن رسول اللّه - غير القرآن - من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ‏.‏ ومنها‏:‏ ما يعمّ النّفل، وهو ما فعله خير من تركه من غير افتراضٍ ولا وجوبٍ‏.‏

د - المعصية‏:‏

7 - العصيان‏:‏ خلاف الطّاعة يقال‏:‏ عصى العبد ربّه إذا خالف أمره، وعصى فلان أميره‏:‏ إذا خالف أمره‏.‏ وشرعاً‏:‏ عصيان أمر الشّارع قصداً، وهي ليست بمنزلةٍ واحدةٍ‏.‏

فهي إمّا كبائر وهي‏:‏ ما يترتّب عليها حدّ، أو وعيد بالنّار أو اللّعنة أو الغضب، أو ما اتّفقت الشّرائع على تحريمه، على اختلافٍ بين العلماء في تحديدها‏.‏

وإمّا صغائر وهي‏:‏ ما لم يترتّب عليها شيء ممّا ذكر إذا اجتنب الإصرار عليها، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ ما تُنْهَونَ عنه نُكَفِّرْ عنكم سيّئاتِكم‏}‏ وعلى هذا تكون البدعة أعمّ من المعصية، حيث تشمل المعصية، كالبدعة المحرّمة والمكروهة كراهة تحريمٍ، وغير المعصية كالواجبة والمستحبّة والمباحة‏.‏

هـ – المصلحة المرسلة‏:‏

8 – المصلحة لغةً كالمنفعة وزناً ومعنًى، فهي مصدر بمعنى الصّلاح، أو هي اسم للواحد من المصالح‏.‏ والمصلحة المرسلة اصطلاحاً هي‏:‏ المحافظة على مقصود الشّرع المنحصر في الضّروريّات‏.‏ الخمس، كما قال الإمام الغزاليّ رحمه الله، أو هي اعتبار المناسب الّذي لا يشهد له أصل معيّن عند الشّاطبيّ، أو هي أن يرى المجتهد أنّ هذا الفعل فيه منفعة راجحة وليس في الشّرع ما ينفيه عند ابن تيميّة‏.‏ أو هي أن يناط الأمر باعتبارٍ مناسبٍ لم يدلّ الشّرع على اعتباره ولا إلغائه إلاّ أنّه ملائم لتصرّفات الشّرع، إلى غير ذلك من التّعريفات الأخرى الّتي يرجع لتفاصيلها إلى مصطلح ‏(‏مصلحة مرسلة‏)‏‏.‏

حكم البدعة التّكليفيّ

9 - ذهب الإمام الشّافعيّ والعزّ بن عبد السّلام وأبو شامة، والنّوويّ من الشّافعيّة، والإمام القرافيّ والزّرقانيّ من المالكيّة، وابن الجوزيّ من الحنابلة، وابن عابدين من الحنيفة إلى تقسيم البدعة تبعاً للأحكام الخمسة إلى‏:‏ واجبةٍ أو محرّمةٍ أو مندوبةٍ أو مكروهةٍ أو مباحةٍ‏.‏ وضربوا لكلٍّ من هذه الأقسام أمثلةً‏:‏

فمن أمثلة البدعة الواجبة‏:‏ الاشتغال بعلم النّحو، الّذي يفهم به كلام اللّه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لأنّ حفظ الشّريعة واجب، ولا يتأتّى حفظها إلاّ بمعرفة ذلك، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب‏.‏ وتدوين الكلام في الجرح والتّعديل لتمييز الصّحيح من السّقيم، لأنّ قواعد الشّريعة دلّت على أنّ حفظ الشّريعة فرض كفايةٍ فيما زاد على القدر المتعيّن، ولا يتأتّى حفظها إلاّ بما ذكرناه‏.‏

ومن أمثلة البدعة المحرّمة‏:‏ مذهب القدريّة والخوارج والمجسّمة‏.‏

ومن أمثلة البدعة المندوبة‏:‏ إحداث المدارس وبناء القناطر وصلاة التّراويح في المسجد جماعةً‏.‏

ومن أمثلة المكروهة‏:‏ زخرفة المساجد وتزويق المصاحف‏.‏

وأمّا أمثلة البدعة المباحة فمنها‏:‏ المصافحة عقيب صلاة الصّبح والعصر، ومنها التّوسّع في اللّذيذ من المآكل والمشارب والملابس‏.‏ هذا وقد قسّم العلماء البدعة المحرّمة إلى بدعةٍ مكفّرةٍ وغير مكفّرةٍ، وصغيرةٍ وكبيرةٍ على ما سيأتي‏.‏

البدعة في العقيدة‏:‏

10 - اتّفق العلماء على أنّ البدعة في العقيدة محرّمة، وقد تتدرّج إلى أن تصل إلى الكفر‏.‏ فأمّا الّتي تصل إلى الكفر فهي أن تخالف معلوماً من الدّين بالضّرورة، كبدعة الجاهليّين الّتي نبّه عليها القرآن الكريم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما جَعَل اللّهُ من بَحِيرَةٍ ولا سَائِبَةٍ ولا وَصِيلَةٍ ولا حَامٍ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةٌ لِذُكورنا ومُحَرَّمٌ على أزواجنا وإنْ يكن مَيْتَةً فهم فيه شركاءُ‏}‏ وحدّدوا كذلك ضابطاً للبدعة المكفّرة، وهي‏:‏ أن يتّفق الكلّ على أنّ هذه البدعة كفر صراح لا شبهة فيه‏.‏

البدعة في العبادات‏:‏

اتّفق العلماء على أنّ البدعة في العبادات منها ما يكون حراماً ومعصيةً، ومنها ما يكون مكروهاً‏.‏

أ - البدعة المحرّمة‏:‏

11 - ومن أمثلتها‏:‏ بدعة التّبتّل والصّيام قائماً في الشّمس، والخصاء لقطع الشّهوة في الجماع والتّفرّغ للعبادة‏.‏ لما جاء عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حديث الرّهط الّذين فعلوا ذلك‏:‏ «جاء ثلاثةُ رَهْطٍ إلى بيوتِ أزواج رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلمّا أُخبِروا كأنّهم تَقَالّوها، فقالوا‏:‏ وأينَ نحنُ من النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد غفرَ اللّه له ما تَقَدّمَ من ذنبه وما تَأَخّرَ‏.‏ قال أحدُهم‏:‏ أمّا أنا فإنّي أصلّي اللّيلَ أبداً، وقال الآخر‏:‏ أنا أصومُ الدّهرَ ولا أفطرُ، وقال الآخر‏:‏ أنا أعتزلُ النّساءَ فلا أتزوّجُ أبداً، فجاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أنتم الّذين قلتم كذا وكذا، أمَا واللّه إنّي لَأَخْشَاكم لِلّه وأتقاكُم له‏.‏ لكنّي أصومُ وأفطرُ، وأصلّي وأرقدُ، وأتزوّجُ النّساء، فَمَنْ رغِبَ عن سنّتي فليس منّي»‏.‏

ب - البدعة المكروهة‏:‏

12 - قد تكون البدعة في العبادات من المكروهات، مثل الاجتماع عشيّة عرفة للدّعاء لغير الحجّاج فيها، وذكر السّلاطين في خطبة الجمعة للتّعظيم، أمّا للدّعاء فسائغ، وكزخرفة المساجد‏.‏ جاء عن محمّد بن أبي القاسم عن أبي البحتريّ قال‏:‏‏"‏ أخبر رجل عبد اللّه بن مسعودٍ أنّ قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب فيهم رجل يقول‏:‏ كبّروا اللّه كذا وكذا، وسبّحوا اللّه كذا وكذا، واحمدوا اللّه كذا وكذا، قال عبد اللّه‏:‏ فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني فأخبرني بمجلسهم، فأتاهم فجلس، فلمّا سمع ما يقولون قام فأتى ابن مسعودٍ فجاء - وكان رجلاً حديداً - فقال أنا عبد اللّه بن مسعودٍ، واللّه الّذي لا إله غيره لقد جئتم ببدعةٍ ظلماً، ولقد فضلتم أصحاب محمّدٍ صلى الله عليه وسلم علماً‏.‏ فقال عمرو بن عتبة‏:‏ أستغفر اللّه‏.‏ فقال عليكم بالطّريق فالزموه، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلّنّ ضلالاً بعيداً ‏"‏‏.‏

البدعة في العادات‏:‏

13 - البدعة في العادات منها المكروه، كالإسراف في المآكل والمشارب ونحوها‏.‏

ومنها المباح، مثل التّوسّع في اللّذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، ولبس الطّيالسة، وتوسيع الأكمام، من غير سرفٍ ولا اختيالٍ‏.‏

وذهب قوم إلى أنّ الابتداع في العادات الّتي ليس لها تعلّق بالعبادات جائز، لأنّه لو جازت المؤاخذة في الابتداع في العادات لوجب أن تعدّ كلّ العادات الّتي حدثت بعد الصّدر الأوّل - من المآكل والمشارب والملابس والمسائل النّازلة - بدعاً مكروهاتٍ، والتّالي باطل، لأنّه لم يقل أحد بأنّ تلك العادات الّتي برزت بعد الصّدر الأوّل مخالفةً لهم، ولأنّ العادات من الأشياء الّتي تدور مع الزّمان والمكان‏.‏

دواعي البدعة وأسبابها‏:‏

14 - دواعي البدعة وأسبابها وبواعثها كثيرة ومتعدّدة، يصعب حصرها، لأنّها تتجدّد وتتنوّع حسب الأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص، وأحكام الدّين وفروعه كثيرة، والانحراف عنها واتّباع سبل الشّيطان في كلّ حكمٍ متعدّد الوجوه‏.‏

وكلّ خروجٍ إلى وسيلةٍ من وسائل الباطل لا بدّ له من باعثٍ‏.‏

ومع ذلك فمن الممكن إرجاع الدّواعي والأسباب إلى ما يأتي‏:‏

أ - الجهل بوسائل المقاصد‏:‏

15 - أنزل اللّه سبحانه وتعالى القرآن عربيّاً لا عجمة فيه، بمعنى أنّه جارٍ في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب، وقد أخبر اللّه تعالى بذلك فقال‏:‏ ‏{‏إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً‏}‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏قرآناً عربيّاً غير ذي عوجٍ‏}‏ ومن هذا يعلم أنّ الشّريعة لا تفهم إلاّ إذا فهم اللّسان العربيّ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك أنزلناه حكماً عربيّاً‏}‏ والإخلال في ذلك قد يؤدّي إلى البدعة‏.‏

ب - الجهل بالمقاصد‏:‏

16 - ما ينبغي للإنسان أن يعلمه ولا يجهله من المقاصد أمران‏:‏

- 1 - أنّ الشّريعة جاءت كاملةً تامّةً لا نقص فيها ولا زيادة، ويجب أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النّقص، وأن يرتبط بها ارتباط ثقةٍ وإذعانٍ، في عاداتها وعباداتها ومعاملاتها، وألاّ يخرج عنها ألبتّة‏.‏ وهذا الأمر أغفله المبتدعة فاستدركوا على الشّرع، وكذبوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل لهم في ذلك فقالوا‏:‏ نحن لم نكذب على رسول اللّه وإنّما كذبنا له‏.‏ وحكي عن محمّد بن سعيدٍ، المعروف بالأردنّيّ، أنّه قال‏:‏‏"‏ إذا كان الكلام حسناً لم أر فيه بأساً، أجعل له إسناداً إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏.‏

- 2 - أن يوقن إيقاناً جازماً أنّه لا تضادّ بين آيات القرآن الكريم وبين الأحاديث النّبويّة بعضها مع بعضٍ، أو بينها وبين القرآن الكريم، لأنّ النّبع واحد، وما كان الرّسول صلى الله عليه وسلم ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحيّ يوحى، وإنّ قوماً اختلف عليهم الأمر لجهلهم، هم الّذين عناهم الرّسول بقوله‏:‏ «يقرءون القرآنَ لا يجاوِزُ حناجرَهم»‏.‏

فيتحصّل ممّا قدّمنا كمال الشّريعة وعدم التّضادّ بين نصوصها‏.‏

أمّا كمال الشّريعة فقد أخبرنا اللّه تعالى بذلك‏:‏ ‏{‏اليوم أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً‏}‏‏.‏ وأمّا عدم التّضادّ في اللّفظ أو المعنى فقد بيّن اللّه أنّ المتدبّر لا يجد في القرآن اختلافاً، لأنّ الاختلاف منافٍ للعلم والقدرة والحكمة ‏{‏أفلا يَتَدَبَّرُونَ القرآنَ ولو كانَ من عندِ غيرِ اللّه لَوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً‏}‏‏.‏

ج - الجهل بالسّنّة‏:‏

17 - من الأمور المؤدّية إلى البدعة الجهل بالسّنّة‏.‏ والجهل بالسّنّة يعني أمرين‏:‏

الأوّل‏:‏ جهل النّاس بأصل السّنّة‏.‏

والثّاني‏:‏ جهلهم بالصّحيح من غيره، فيختلط عليهم الأمر‏.‏

أمّا جهلهم بالسّنّة الصّحيحة، فيجعلهم يأخذون بالأحاديث المكذوبة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد وردت الآثار من القرآن والسّنّة تنهي عن ذلك، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَقْفُ ما ليس لَكَ بهِ عِلْمٌ إنَّ السّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مَسْئولاً‏}‏ وقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كَذَبَ عليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبوّأ مَقْعَدَه من النّارِ»‏.‏

ومن جهلهم بالسّنّة، جهلهم بدورها في التّشريع، وقد بيّن اللّه سبحانه وتعالى مكانة السّنّة في التّشريع‏:‏ ‏{‏وَمَا آتاكم الرّسولُ فَخُذُوه وما نَهَاكم عنه فانتهوا‏}‏‏.‏

د - تحسين الظّنّ بالعقل‏:‏

18 - عدّ العلماء من دواعي البدعة تحسين الظّنّ بالعقل، ويتأتّى هذا من جهة أنّ المبتدع يعتمد على عقله، ولا يعتمد على الوحي وإخبار المعصوم صلى الله عليه وسلم فيجرّه عقله القاصر إلى أشياء بعيدةٍ عن الطّريق المستقيم، فيقع بذلك في الخطأ والابتداع، ويظنّ أنّ عقله موصّله، فإذا هو مهلكه‏.‏ وهذا لأنّ اللّه جعل للعقول في إدراكها حدّاً تنتهي إليه لا تتعدّاه، من ناحية الكمّ ومن ناحية الكيف‏.‏

أمّا علم اللّه سبحانه فلا يتناهى، والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى‏.‏ ويتخلّص من ذلك‏:‏

- 1 - أنّ العقل ما دام على هذه الصّورة لا يجعل حاكماً بإطلاقٍ، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاقٍ، وهو الشّرع، والواجب عليه أن يقدّم ما حقّه التّقديم، ويؤخّر ما حقّه التّأخير‏.‏

- 2 - إذا وجد الإنسان في الشّرع أخباراً يقتضي ظاهرها خرق العادة المألوفة - الّتي لم يسبق له أن رآها أو علم بها علماً صحيحاً - لا يجوز له أن يقدّم بين يديه لأوّل وهلةٍ الإنكار بإطلاقٍ، بل أمامه أحد أمرين‏:‏

الأوّل‏:‏ إمّا أن يصدّق به ويكل العلم فيه للرّاسخين في العلم والمتخصّصين فيه متمثّلاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والرّاسخونَ في العلمِ يقولون آمَنّا به كُلٌّ من عند ربّنا‏}‏

الثّاني‏:‏ يتأوّل على ما يمكن حمله عليه من الآراء بمقتضى الظّاهر‏.‏ ويحكم هذا كلّه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثمّ جَعَلْناك على شَرِيعةٍ من الأَمْرِ فاتَّبِعْها ولا تَتَّبِعْ أهواءَ الّذينَ لا يعلمون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أيّها الّذينَ آمنوا أطيعُوا اللّه وأطيعُوا الرّسولَ وأُولي الأمرِ منكم فإنْ تَنَازَعْتُمْ في شيءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّه والرّسولِ إنْ كنتم تُؤْمنونَ باللّه واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً‏}‏‏.‏

هـ – اتّباع المتشابه‏:‏

19 – قال بعض العلماء‏:‏ المتشابه هو ما اختلف فيه من أحكام القرآن، وقال آخرون‏:‏ هو ما تقابلت فيه الأدلّة‏.‏ وقد نهى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن اتّباع المتشابه بقوله‏:‏ «إذا رأيتم الّذينَ يَتَّبِعُون ما تَشَابَهَ منه فأولئك الّذين سمّى اللّه فاحذَرُوهم» وقد ذكرهم القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو الّذي أنزل عليك الكتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمّا الّذينَ في قُلوبِهم زَيْغٌ فَيَتَّبِعُون ما تَشَابه مِنه‏}‏‏.‏

فليس نظرهم في الدّليل نظر المستبصر حتّى يكون هواه تحت حكمه، بل نظر من حكم بالهوى‏.‏ ثمّ أتى بالدّليل كالشّاهد له‏.‏

و - اتّباع الهوى‏:‏

20 - يطلق الهوى على ميل النّفس وانحرافها نحو الشّيء، ثمّ غلب استعماله في الميل المذموم والانحراف السّيّئ‏.‏ ونسبت البدع إلى الأهواء، وسمّي أصحابها بأهل الأهواء، لأنّهم اتّبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلّة مأخذ الافتقار إليها والتّعويل عليها، بل قدّموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم، ثمّ جعلوا الأدلّة الشّرعيّة منظوراً فيها من وراء ذلك‏.‏

21 - مداخل هذه الأهواء‏:‏

أ - اتّباع العادات والآباء وجعلها ديناً‏.‏ قال تعالى في شأن هؤلاء‏:‏ ‏{‏إنّا وَجَدنا آباءنا على أُمَّةٍ وإنّا على آثارِهم مُهْتَدون‏}‏ فقال الحقّ على لسان رسوله ‏{‏قال أَوَلَوْ جِئْتُكم بأَهْدَى ممّا وَجَدْتُم عليه آباءَكم‏}‏‏.‏

ب - رأي بعض المقلّدين في أئمّتهم والتّعصّب لهم، فقد يؤدّي هذا التّغالي في التّقليد إلى إنكار بعض النّصوص والأدلّة أو تأويلها، وعدّ من يخالفهم مفارقاً للجماعة‏.‏

ج - التّصوّف الفاسد وأخذ ما نقل عن المتصوّفة من الأحوال الجارية عليهم، أو الأقوال الصّادرة عنهم ديناً وشريعةً، وإن كانت مخالفةً للنّصوص الشّرعيّة من الكتاب والسّنّة‏.‏

د - التّحسين والتّقبيح العقليّان‏.‏ فإنّ محصول هذا المذهب تحكيم عقول الرّجال دون الشّرع، وهو أصل من الأصول الّتي بنى عليها أهل الابتداع في الدّين، بحيث إنّ الشّرع إن وافق آراءهم قبلوه وإلاّ ردّ‏.‏

هـ - العمل بالأحلام‏.‏ فإنّ الرّؤيا قد تكون من الشّيطان، وقد تكون من حديث النّفس، وقد تكون من أخلاطٍ مهتاجةٍ‏.‏ فمتى تتعيّن الرّؤيا الصّالحة النّقيّة حتّى يحكم بها ‏؟‏،‏.‏

أنواع البدعة‏:‏

تنقسم البدعة من حيث قربها من الأدلّة أو بعدها عنها إلى حقيقيّةٍ وإضافيّةٍ‏.‏

البدعة الحقيقيّة‏:‏

22 - هي الّتي لم يدلّ عليها دليل شرعيّ، لا من كتابٍ ولا سنّةٍ ولا إجماعٍ ولا استدلالٍ معتبرٍ عند أهل العلم، لا في الجملة ولا في التّفصيل، ولهذا سمّيت بدعة حقيقيّة، لأنّها شيء مخترع على غير مثالٍ سابقٍ، وإن كان المبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشّرع، إذ هو مدّعٍ أنّه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلّة، ولكن ثبت أنّ هذه الدّعوى غير صحيحةٍ، لا في نفس الأمر ولا بحسب الظّاهر، أمّا بحسب نفس الأمر فبالعرض، وأمّا بحسب الظّاهر فإنّ أدلّته شبه وليست بأدلّةٍ، ومن أمثلتها‏:‏ التّقرّب إلى اللّه تعالى بالرّهبانيّة وترك الزّواج مع وجود الدّاعي إليه وفقد المانع الشّرعيّ، كرهبانيّة النّصارى المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوها ما كتَبْنَاها عليهم إلاّ ابتغاءَ رِضْوانِ اللّه‏}‏ فهذه كانت قبل الإسلام، أمّا في الإسلام فقد نسخت في شريعتنا بمثل قوله صلى الله عليه وسلم «فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»‏.‏

ومنها‏:‏ أن يفعل المسلم مثل ما يفعل أهل الهند في تعذيب النّفس بأنواع العذاب الشّنيع والقتل بالأصناف الّتي تفزع منها القلوب وتقشعرّ منها الجلود، مثل الإحراق بالنّار على جهة استعجال الموت لنيل الدّرجات العليا والقربى من اللّه سبحانه في زعمهم‏.‏

البدعة الإضافيّة‏:‏

23 - وهي الّتي لها شائبتان‏:‏ إحداهما لها من الأدلّة متعلّق، فلا تكون من تلك الجهة بدعةً، والثّانية ليس لها متعلّق إلاّ مثل ما للبدعة الحقيقيّة‏.‏ ولمّا كان العمل له شائبتان، ولم يتخلّص لأحدٍ الطّرفين، وضعت له هذه التّسمية، لأنّها بالنّسبة إلى إحدى الجهتين سنّة لاستنادها إلى دليلٍ، وبالنّسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لاستنادها إلى شبهةٍ لا إلى دليلٍ، أو لأنّها غير مستندةٍ إلى شيءٍ، وهذا النّوع من البدع هو مثار الخلاف بين المتكلّمين في البدع والسّنن‏.‏ وله أمثلة كثيرة، منها‏:‏ صلاة الرّغائب، وهي‏:‏ اثنتا عشرة ركعةً في ليلة الجمعة الأولى من رجبٍ بكيفيّةٍ مخصوصةٍ، وقد قال العلماء‏:‏ إنّها بدعة قبيحة منكرة‏.‏ وكذا صلاة ليلة النّصف من شعبان، وهي‏:‏ مائة ركعةٍ بكيفيّةٍ خاصّةٍ‏.‏ وصلاة برّ الوالدين‏.‏ ووجه كونها بدعةً إضافيّةً‏:‏ أنّها مشروعة، باعتبار النّظر إلى أصل الصّلاة، لحديثٍ رواه الطّبرانيّ في الأوسط «الصّلاة خير موضوعٍ» وغير مشروعةٍ باعتبار ما عرض لها من التزام الوقت المخصوص والكيفيّة المخصوصة‏.‏

فهي مشروعة باعتبار ذاتها، مبتدعة باعتبار ما عرض لها‏.‏

البدع المكفّرة وغير المكفّرة‏:‏

24 - البدع متفاوتة، فلا يصحّ أن يقال‏:‏ إنّها على حكمٍ واحدٍ هو الكراهة فقط، أو التّحريم فقط‏.‏ فقد وجد أنّها تختلف في أحكامها، فمنها ما هو كفر صراح، كبدعة الجاهليّة الّتي نبّه القرآن عليها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلوا للّه ممّا ذَرَأَ من الحَرْثِ والأنعامِ نَصيباً فقالوا‏:‏ هذا للّه بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَائِنا‏}‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا ما في بُطونِ هذه الأنْعامِ خالصةٌ لذكورِنا ومحرّمٌ على أزواجِنا وإنْ يكنْ مَيْتةً فهم فيه شُرَكَاء‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما جَعَل اللّهُ من بَحِيرَةٍ ولا سَائِبَةٍ ولا وَصِيلةٍ ولا حَامٍ‏}‏‏.‏ وكذلك بدعة المنافقين الّذين اتّخذوا الدّين ذريعةً لحفظ النّفس والمال وما أشبه ذلك ‏{‏يقولونَ بِأَفْواهِهِمْ ما ليسَ في قُلوبِهم‏}‏ فهذا وأضرابه لا يشكّ أحد في أنّه كفر صراح، لابتداعه أشياء أنكرتها النّصوص وتوعّدت عليها‏.‏

ومنها ما هو كبيرة وليس بكفرٍ، أو يختلف فيه هل هو كفر أم لا ‏؟‏ كبدع الفرق الضّالّة‏.‏ ومنها ما هو معصية وليس بكفرٍ اتّفاقاً، كبدعة التّبتّل والصّيام قائماً في الشّمس، والخصاء بقطع شهوة الجماع، للأحاديث الواردة في النّهي عن ذلك، وقد سبق بعض منها ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكم إنّ اللّه كانَ بِكم رَحيماً‏}‏‏.‏

تقسيم البدع غير المكفّرة إلى كبيرةٍ وصغيرةٍ‏:‏

25 - إنّ المعاصي منها صغائر ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعةً في الضّروريّات أو الحاجيّات أو التّحسينات، فإن كانت في الضّروريّات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التّحسينات فهي أدنى رتبةً بلا إشكالٍ، وإن وقعت في الحاجيّات فمتوسّطة بين الرّتبتين، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الّذين يَجْتَنِبُون كَبَائِرَ الِإثمِ والفَوَاحِشَ إلاّ اللّمَمَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ ما تُنْهَوْنَ عنه نُكَفِّرْ عنكم سيّئاتِكم وَنُدْخِلْكم مُدْخَلاً كَرِيماً‏}‏، وإذا كانت ليست رتبةً واحدةً فالبدع من جملة المعاصي، وقد ثبت التّفاوت في المعاصي، فكذلك يتصوّر مثله في البدع، فمنها ما يقع في الضّروريّات، ومنها ما يقع في رتبة الحاجيّات، ومنها ما يقع في رتبة التّحسينات‏.‏ وما يقع في رتبة الضّروريّات، منه ما يقع في الدّين، أو النّفس، أو النّسل، أو العقل، أو المال‏.‏ فمثال وقوعه في الدّين‏:‏ اختراع الكفّار وتغييرهم ملّة إبراهيم عليه السلام في نحو قوله‏:‏ ‏{‏ما جَعَل اللّهُ من بَحِيرةٍ ولا سَائبةٍ ولا وَصِيلةٍ ولا حامٍ‏}‏ وحاصل ما في الآية تحريم ما أحلّ اللّه على نيّة التّقرّب به إليه، مع كونه حلالاً بحكم الشّريعة المتقدّمة‏.‏ ومثال ما يقع في النّفس‏:‏ ما عليه بعض نحل الهند، من تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب واستعجال الموت، لنيل الدّرجات العلى على زعمهم‏.‏

ومثال ما يقع في النّسل‏:‏ ما كان من أنكحة الجاهليّة الّتي كانت معهودةً ومعمولاً بها ومتّخذةً كالدّين، وهي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام ولا غيره، بل كانت من جملة ما اخترعوه‏.‏ من ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها في حديث أنكحة الجاهليّة‏.‏

ومثال ما يقع في العقل‏:‏ ما يتناول من المسكرات والمخدّرات بدعوى تحصيل النّفع والتّقوّي على القيام ببعض الواجبات المشروعة في ذاتها‏.‏ ومثال ما يقع في المال‏:‏ قولهم ‏{‏إنّما البَيْعُ مِثْلُ الرّبا‏}‏ فإنّهم احتجّوا بقياسٍ فاسدٍ‏.‏ وكذلك سائر ما يحدث النّاس بينهم من البيوع المبنيّة على المخاطرة والغرر‏.‏

26 - هذا التّقسيم من حيث اعتبار البدعة كبيرةً أو صغيرةً مشروط بشروطٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ ألاّ يداوم عليها، فإنّ الصّغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنّسبة إليه، لأنّ ذلك ناشئ عن الإصرار عليها، والإصرار على الصّغيرة يصيّرها كبيرةً، ولذلك قالوا‏:‏ لا صغيرة مع إصرارٍ، ولا كبيرة مع استغفارٍ، فكذلك البدعة من غير فرقٍ‏.‏

الثّاني‏:‏ ألاّ يدعو إليها‏.‏ فإذا ابتلي إنسان ببدعةٍ فدعا إليها تحمّل وزرها وأوزار الآخرين معه، مصداقاً لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سنّ سنّةً سيّئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»‏.‏

الثّالث‏:‏ ألاّ تفعل في الأماكن العامّة الّتي يجتمع فيها النّاس، أو المواضع الّتي تقام فيها السّنن، وتظهر فيها أعلام الشّريعة، وألاّ يكون ممّن يقتدى به أو يحسن به الظّنّ، فإنّ العوّام يقتدون - بغير نظرٍ - بالموثوق بهم أو بمن يحسنون الظّنّ به، فتعمّ البلوى ويسهل على النّاس ارتكابها‏.‏

تقسيم المبتدع إلى داعيةٍ لبدعته وغير داعيةٍ‏:‏

27 - المنسوب إلى البدعة في العرف لا يخلو أن يكون مجتهداً فيها أو مقلّداً، والمقلّد إمّا أن يكون مقلّداً مع الإقرار بالدّليل الّذي زعمه المجتهد المبتدع، وإمّا أن يكون مقلّداً من غير نظرٍ، كالعامّيّ الصّرف الّذي حسّن الظّنّ بصاحب البدعة، ولم يكن له دليل على التّفصيل يتعلّق به، إلاّ تحسين الظّنّ بالمبتدع خاصّةً‏.‏ وهذا القسم كثير في العوّام، فإذا تبيّن أنّ المبتدع آثم، فليس الإثم الواقع عليه على رتبةٍ واحدةٍ‏.‏ بل هو على مراتب مختلفةٍ، من جهة كون صاحب البدعة داعياً إليها أم لا، لأنّ الزّيغ في قلب الدّاعي أمكن منه في قلب المقلّد، ولأنّه أوّل من سنّ تلك السّنّة، ولأنّه يتحمّل وزر من تبعه، مصداقاً لحديث‏:‏ «من سنّ سنّةً سيّئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»‏.‏

كما يختلف الإثم بالنّسبة إلى الإسرار والإعلان، لأنّ المسرّ ضرره مقصور عليه لا يتعدّاه، بخلاف المعلن‏.‏ كما يختلف كذلك من جهة الإصرار عليها أو عدمه، ومن جهة كونها حقيقيّةً أو إضافيّةً، ومن جهة كونها كفراً أو غير كفرٍ‏.‏س

رواية المبتدع للحديث‏:‏

28 - ردّ العلماء رواية من كفر ببدعته، ولم يحتجّوا به في صحّة الرّواية‏.‏

ولكنّهم شرطوا للكفر بالبدعة، أن ينكر المبتدع أمراً متواتراً من الشّرع معلوماً من الدّين بالضّرورة‏.‏ أمّا من لم يكفر ببدعته، فللعلماء في روايته ثلاثة أقوالٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ لا يحتجّ بروايته مطلقاً، وهو رأي الإمام مالكٍ، لأنّ في الرّواية عن المبتدع ترويجاً لأمره وتنويهاً بذكره، ولأنّه أصبح فاسقاً ببدعته‏.‏

الثّاني‏:‏ يحتجّ به إن لم يكن ممّن يستحلّ الكذب في نصرة مذهبه، سواء أكان داعيةً أم لا، وهو قول الشّافعيّ وأبي يوسف والثّوريّ‏.‏

الثّالث‏:‏ قيل يحتجّ به إن لم يكن داعياً إلى بدعته، ولا يحتجّ به إن كان داعيةً إليها‏.‏

قال النّوويّ والسّيوطيّ‏:‏ هذا القول هو الأعدل والأظهر، وهو قول الكثير أو الأكثر، ويؤيّده احتجاج البخاريّ ومسلمٍ في الصّحيحين بكثيرٍ من المبتدعة غير الدّعاة‏.‏

شهادة المبتدع‏:‏

29 - ردّ المالكيّة والحنابلة شهادة المبتدع، سواء أكفر ببدعته أم لا، وسواء أكان داعياً لها أم لا‏.‏ وهو رأي شريكٍ وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثورٍ، وعلّلوا ذلك بأنّ المبتدع فاسق تردّ شهادته للآية‏:‏ ‏{‏وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكم‏}‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنْ جَاءَكُمْ فاسقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ وقال الحنفيّة والشّافعيّة في الرّاجح عندهم‏:‏ تقبل شهادة المبتدع ما لم يكفر ببدعته، كمنكر صفات اللّه وخلقه لأفعال العباد، لأنّهم يعتقدون أنّهم مصيبون في ذلك لما قام عندهم من الأدلّة‏.‏

وقال الشّافعيّة في المرجوح عندهم‏:‏ لا تقبل شهادة المبتدع الدّاعي إلى البدعة‏.‏

الصّلاة خلف المبتدع

30 - اختلف العلماء في حكم الصّلاة خلف المبتدع‏.‏ فذهب الحنفيّة، والشّافعيّة، وهو رأي للمالكيّة إلى جواز الصّلاة خلف المبتدع مع الكراهة ما لم يكفر ببدعته، فإن كفر ببدعته فلا تجوز الصّلاة خلفه‏.‏ واستدلّوا لذلك بأدلّةٍ منها‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم «صَلُّوا خلْفَ مَنْ قال لا إِلهَ إلاّ اللّه» وقوله‏:‏ «صَلُّوا خلفَ كلِّ بَرٍّ وفاجرٍ»‏.‏

وما روي من أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلّي مع الخوارج وغيرهم زمن عبد اللّه بن الزّبير وهم يقتتلون، فقيل له‏:‏ أتصلّي مع هؤلاء ومع هؤلاء، وبعضهم يقتل بعضاً ‏؟‏ فقال‏:‏‏"‏ من قال حيّ على الصّلاة أجبته، ومن قال‏:‏ حيّ على الفلاح أجبته‏.‏ ومن قال‏:‏ حيّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت‏:‏ لا ‏"‏‏.‏

ولأنّ المبتدع المذكور تصحّ صلاته، فصحّ الائتمام به كغيره‏.‏

وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ من صلّى خلف المبتدع الّذي يعلن بدعته ويدعو إليها أعاد صلاته ندباً، وأمّا من صلّى خلف مبتدعٍ يستتر ببدعته فلا إعادة عليه‏.‏

واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلاً، ولا فاجرٌ مؤمناً إلاّ أن يَقْهَرَه بسلطانٍ، أو يخافَ سوطَه أو سيفه»‏.‏

ولاية المبتدع‏:‏

31 - اتّفق العلماء على أنّ من شروط أصحاب الولايات العامّة - كالإمام الأعظم الخليفة وأمراء الولايات والقضاة وغيرهم - العدالة، وألاّ يكونوا من أصحاب الأهواء والبدع، وذلك لتكون العدالة وازعةً عن التّقصير في جلب المصالح ودرء المفاسد، وحتّى لا يخرجه الهوى من الحقّ إلى الباطل، وقد ورد‏:‏ ‏"‏ حبّك الشّيء يعمي ويصمّ ‏"‏‏.‏

ولكنّ ولاية المتغلّب على الإمامة أو غيرها من الولايات تنعقد، وتجب طاعته فيما يجوز من أمره ونهيه وقضائه باتّفاق الفقهاء، وإن كان من أهل البدع‏.‏ والأهواء، ما لم يكفر ببدعته، درءاً للفتنة، وصوناً لشمل المسلمين، واحتفاظاً بوحدة الكلمة‏.‏

الصّلاة على المبتدع‏:‏

32 - اختلف الفقهاء في الصّلاة على المبتدع الميّت، فذهب جمهور العلماء إلى وجوب الصّلاة على المبتدع الّذي لم يكفر ببدعته، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلّوا على من قال لا إله إلاّ اللّه»‏.‏

إلاّ أنّ المالكيّة يرون كراهية صلاة أصحاب الفضل على المبتدع، ليكون ذلك ردعاً وزجراً لغيرهم عن مثل حالهم، ولأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي برجلٍ قتل نفسه لم يصلّ عليه»‏.‏ وذهب الحنابلة إلى منع الصّلاة على المبتدع، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم

«ترك الصّلاة على صاحب الدّين وقاتل نفسه» وهما أقلّ جرماً من المبتدع‏.‏

توبة المبتدع‏:‏

33 - اختلف العلماء في قبول توبة المبتدع المكفّر ببدعته، فقال جمهور كلٍّ من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بقبول توبته، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلّذين كَفَروا إنْ يِنْتهُوا يُغْفَرْ لهم ما قَدْ سَلَفَ‏}‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أُمِرْتُ أنْ أُقاتلَ النّاسَ حتّى يقولُوا‏:‏ لا إلهَ إلاّ اللّه، فإذا قالوها فقد عَصَمُوا منّي دماءَهم وأموالَهم إلاّ بِحَقِّها، وحسابُهم على اللّه» ومن الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة من يرى أنّ توبة المبتدع لا تقبل إذا كان ممّن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، كالمنافق والزّنديق والباطنيّ، لأنّ توبته صدرت عن خوفٍ، ولأنّه لا تظهر منه علامة تبيّن صدق توبته، حيث كان مظهراً للإسلام مسرّاً للكفر، فإذا أظهر التّوبة لم يزد على ما كان منه قبلها، واستدلّوا لذلك ببعض الأحاديث، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سيخرجُ في أمّتي أقوامٌ تجاري بهم تلك الأهواءُ، كما يتجارى الكلبُ بصاحبه، لا يبقى منه عرقٌ ولا مفصلٌ إلاّ دَخَلَه»‏.‏ وهذا الخلاف بين العلماء في قبول توبة المبتدع ينحصر فيما يتعلّق بأحكام الدّنيا في حقّه، أمّا ما يتعلّق بقبول اللّه تعالى لتوبته وغفرانه لذنبه إذا أخلص وصدق في توبته فلا خلاف فيه‏.‏

ما يجب على المسلمين تجاه البدعة‏:‏

34 - ينبغي على المسلمين تجاه البدعة أشياء لمنع الوقوع فيها - منها‏:‏

أ - تعهّد القرآن وحفظه وتعليمه وبيان أحكامه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَنْزَلْنا إليك الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ للنّاسِ ما نُزِّلَ إليهم‏}‏ ولقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «خيرُكم من تعلَّمَ القُرآنَ وعلَّمَه» وفي روايةٍ «أَفْضَلُكم من تعلّمَ القُرآنَ وعلّمَه» وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«تَعَاهَدُوا القرآنَ فوالّذي نفسي بيده لَهُوَ أشدُّ تَفَصِّياً من الإبِلِ في عُقُلِها» لأنّ في تعليم القرآن وبيان أحكامه قطع الطّريق على المبتدعين بإظهار الأحكام الشّرعيّة‏.‏

ب - إظهار السّنّة والتّعريف بها‏:‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرّسولُ فَخُذُوه وما نَهَاكم عنه فانْتَهُوا‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لِمُؤْمنٍ ولا مُؤْمنةٍ إذا قَضَى اللّهُ ورسولُه أمراً أن يكونَ لهم الخِيَرَةُ من أمرِهم ومن يعص اللّهَ ورسولَه فقد ضلَّ ضَلالاً مُبيناً‏}‏‏.‏ وعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نَضَّرَ اللّهُ امْرأً سَمِع منّا حديثاً فَحَفِظَهُ حتّى يُبَلِّغَهُ غيرَه»‏.‏

وعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أحدثَ قومٌ بِدْعَةً إلاّ رُفِعَ مِثْلُها من السُّنّةِ»‏.‏

ج - عدم قبول الاجتهاد ممّن لا يتأهّل له، وردّ الاجتهاد في الدّين من المصادر غير المقبولة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسْألوا أهل الذِّكْرِ إنْ كُنْتم لا تَعْلَمون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإنْ تَنَازَعْتُم في شيءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ والرَّسولِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما يَعْلمُ تَأْويلَه إلاّ اللّهُ والرّاسخونَ في العلمِ‏}‏‏.‏

د - نبذ التّعصّب لرأيٍ من الآراء أو اجتهادٍ من الاجتهادات، ما لم يكن مؤيّداً بالحقّ من الأدلّة الشّرعيّة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أضلُّ مِمَّن اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغيرِ هُدىً من اللّهِ‏}‏‏.‏

هـ – منع العامّة من القول في الدّين، وعدم الاعتداد بآرائهم مهما كانت مناصبهم وتقواهم إلاّ بالدّليل‏.‏ يقول أبو يزيد البسطاميّ‏:‏ لو نظرتم إلى رجلٍ أعطي من الكرامات حتّى يرتقي في الهواء، فلا تغترّوا به حتّى تنظروا كيف تجدونه عن الأمر والنّهي وحفظ الحدود وأداء الشّريعة‏.‏ وقال أبو عثمان الحيريّ‏:‏ من أمّر السّنّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُطِيعوهُ تَهْتَدُوا‏}‏‏.‏

و- صدّ التّيّارات الفكريّة المضلّلة الّتي تشكّك النّاس في الدّين، وتحمل بعضهم على التّأويل بغير دليلٍ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إن تُطِيعُوا فَريقاً مِنَ الّذينَ أُوتوا الكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بعدَ إِيمانِكُم كافرين‏}‏‏.‏

ما يجب على المسلمين تجاه أهل البدعة‏:‏

35 - يجب على المسلمين من أولي الأمر وغيرهم أن يأمروا أهل البدع بالمعروف وينهوهم عن المنكر، ويحضّوهم على اتّباع السّنّة والإقلاع عن البدعة والبعد عنها‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولْتَكُنْ منكم أُمّةٌ يَدْعون إلى الخيرِ وَيَأْمرون بالمعروفِ ويَنْهَونَ عن المنكَرِ وأولئكَ هُمُ المفلحون‏}‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضُهمْ أَوْلياءُ بعضٍ يَأْمُرونَ بِالمَعْروفِ ويَنْهَوْن عن المنكَرِ‏}‏‏.‏

36 - مراحل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لمنع البدعة‏:‏

أ - التّعريف ببيان الصّواب من الخطأ بالدّليل‏.‏

ب - الوعظ بالكلام الحسن مصداقاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اُدْعُ إلى سبيلِ ربّك بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ‏}‏‏.‏

ج - التّعنيف والتّخويف من العقاب الدّنيويّ والأخرويّ، بيان أحكام ذلك في أمر بدعته‏.‏

د - المنع بالقهر، مثل كسر الملاهي وتمزيق الأوراق وفضّ المجالس‏.‏

هـ - التّخويف والتّهديد بالضّرب الّذي يصل إلى التّعزير، وهذه المرتبة لا تنبغي إلاّ للإمام أو بإذنه، لئلاّ يترتّب عليها ضرر أكبر منها‏.‏

وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ‏(‏الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر‏)‏‏.‏

معاملة المبتدع ومخالطته‏:‏

37 - إذا كان المبتدع غير مجاهرٍ ببدعته ينصح، ولا يجتنب ولا يشهّر به، لحديث الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللّهُ في الدّنيا والآخرة»‏.‏

وأمّا إذا كان مجاهراً بشيءٍ منهيٍّ عنه من البدع الاعتقاديّة أو القوليّة أو العمليّة - وهو يعلم ذلك - فإنّه يسنّ هجره، وقد اشتهر هذا عند العلماء‏.‏ وروي عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تُجَالِسُوا أهلَ القَدَر، ولا تُفَاتِحُوهم» وقال ابن مسعودٍ‏:‏‏"‏ من أحبّ أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشّيطان ومجالسة أصحاب الأهواء، فإنّ مجالسهم ألصق من الحرب ‏"‏‏.‏

وعن ابن عمر مرفوعاً‏:‏ «لا تُجَالسوا أهلَ القدرِ ولا تُناكِحُوهم»‏.‏ وعن أبي قلابة ‏"‏ لا تجالسوا أهل الأهواء، فإنّي لا آمن أن يغمسوكم في ضلالاتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون ‏"‏ وقد هجر أحمد من قالوا بخلق القرآن‏.‏ قال ابن تيميّة‏:‏ ينبغي لأهل الخير والدّين أن يهجروا المبتدع حيّاً وميّتاً، إذا كان في ذلك كفّ للمجرمين، فيتركوا تشييع جنازته‏.‏

إهانة المبتدع‏:‏

38 - صرّح العلماء بجواز إهانة المبتدع بعدم الصّلاة خلفه، أو الصّلاة على جنازته، وكذلك لا يعاد إذا مرض، على خلافٍ في ذلك‏.‏

بدل

انظر‏:‏ إبدال‏.‏

بدنة

التّعريف

1 - البدنة في اللّغة‏:‏ من الإبل خاصّةً، ويطلق هذا اللّفظ على الذّكر والأنثى، والجمع البدن‏.‏ وسمّيت بدنةً لضخامتها‏.‏

قال في المصباح المنير‏:‏ والبدنة قالوا‏:‏ هي ناقة أو بقرة، وزاد الأزهريّ‏:‏ أو بعير ذكر‏.‏ قال‏:‏ ولا تطلق البدنة على الشّاة‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ البدنة اسم تختصّ به الإبل، إلاّ أنّ البقرة لمّا صارت في الشّريعة في حكم البدنة قامت مقامها، وذلك لما قال جابر بن عبد اللّه‏:‏ «نَحَرْنا مع رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبيةِ البدنةَ عن سبعةٍ، والبقرةَ عن سبعةٍ» فصار البقر في حكم البدن مع تغايرهما لوجود العطف بينهما، والعطف يقتضي المغايرة‏.‏

ومع هذا فقد أطلق بعض الفقهاء ‏"‏ البدنة ‏"‏ على الإبل والبقر‏.‏

الحكم الإجمالي

تتعلّق بالبدن أحكام خاصّة منها‏:‏

أ - بول البدن ورَوْثها‏:‏

2 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى نجاسة بول وروث الحيوان، سواء أكان ممّا يؤكل لحمه أم لا، ومن الحيوان‏:‏ البدن‏.‏ لما روى البخاريّ «أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا جيء له بحجرين وَرَوْثَةٍ ليستنجي بها، أخذ الحجرين وردَّ الرّوثة، وقال‏:‏ هذا ركس» والرّكس‏:‏ النّجس‏.‏ وأمّا نجاسة البول فلعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تَنَزَّهوا من البول، فإنّ عامَّةَ عذابِ القبرِ منه» حيث يدخل فيه جميع أنواع الأبوال‏.‏

وذهب المالكيّة والحنابلة إلى طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه، لأنّه «صلى الله عليه وسلم أمر العُرَنيّين أن يَلْحَقُوا بإِبلِ الصّدقة، فَيَشْرَبُوا من أبوالها وألبانها» والنّجس لا يباح شربه، ولأنّه «صلى الله عليه وسلم كان يصلّي في مرابض الغنم، وأمر بالصّلاة فيها»‏.‏

ب - نقض الوضوء‏:‏

3 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّ أكل لحم الجزور - وهو لحم الإبل - لا ينقض الوضوء، لما روى ابن عبّاسٍ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «الوضوءُ ممّا خرج لا ممّا دخل»، ولما روى جابر قال‏:‏ «كان آخرُ الأمرين عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تركُ الوضوءِ ممّا مَسّتِ النّار» ولأنّه مأكول أشبه سائر المأكولات‏.‏

وهذا القول مرويّ عن أبي بكرٍ الصّدّيق وعمر وعثمان وعليٍّ وابن مسعودٍ وأبيّ بن كعبٍ وأبي طلحة وأبي الدّرداء وابن عبّاسٍ وعامر بن ربيعة وأبي أمامة، وبه قال جمهور التّابعين، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة، والصّحيح من مذهب الشّافعيّة‏.‏

وذهب الحنابلة، والشّافعيّ في القديم إلى وجوب الوضوء من أكل لحم الجزور على كلّ حالٍ، نيئاً أو مطبوخاً، عالماً كان أو جاهلاً‏.‏ وبه قال إسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى‏.‏ وحكاه الماورديّ عن جماعةٍ من الصّحابة، منهم‏:‏ زيد بن ثابتٍ وابن عمر وأبو موسى وأبو طلحة، واختاره من الشّافعيّة أبو بكر بن خزيمة وابن المنذر، وأشار البيهقيّ إلى ترجيحه واختياره، وقوّاه النّوويّ في المجموع‏.‏

واستدلّوا بحديث البراء بن عازبٍ قال‏:‏ «سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن لحوم الإبل، فقال‏:‏ توضّئوا منها، وسئل عن لحوم الغنم، فقال‏:‏ لا يُتوضّأ منها» وبقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏توضّئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضّئوا من لحوم الغنم‏}‏‏.‏

أمّا ألبان الإبل، فعند الحنابلة روايتان في نقض الوضوء بشربها‏:‏

إحداهما‏:‏ ينقض الوضوء، لما روى أسيد بن حضيرٍ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«توضّئوا من لحوم الإبل وألبانها»‏.‏

والثّانية‏:‏ لا وضوء فيه، لأنّ الحديث الصّحيح إنّما ورد في اللّحم، ورجّح هذا القول صاحب كشّاف القناع‏.‏

ج - سؤر البدنة‏:‏

4 - اتّفق الفقهاء على طهارة سؤر البدنة، وسائر الإبل والبقر والغنم، ولا كراهة في أسآرها ما لم تكن جلّالةً‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على أنّ سؤر ما أكل لحمه يجوز شربه والوضوء به‏.‏

د - الصّلاة في أعطان الإبل ومرابض البقر‏:‏

5 - ذهب جمهور العلماء إلى كراهة الصّلاة في معاطن الإبل‏.‏

وقد ألحق الحنفيّة بالإبل البقر في الكراهة‏.‏

وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ إنّ البقر كالغنم في جواز الصّلاة في مرابضها‏.‏

وذهب الحنابلة إلى عدم صحّة الصّلاة في أعطان الإبل، وهي‏:‏ ما تقيم فيه وتأوي إليه‏.‏

أمّا مواضع نزولها في سيرها فلا بأس بالصّلاة فيه‏.‏

هـ – الدّماء الواجبة‏:‏

6 – تجزئ البدنة عن سبعةٍ في حالتي القران والتّمتّع، وفي الأضحيّة، وفي فعل بعض المحظورات أو ترك بعض الواجبات حال الإحرام بحجٍّ أو عمرةٍ‏.‏

وتجب عند الحنفيّة بدنة كاملة على الحائض والنّفساء إذا طافتا‏.‏

كما تجب بدنة كاملة إذا قتل المحرم صيداً كبيراً، كالزّرافة والنّعامة، على التّخيير المفصّل في موضعه‏.‏ وتجب أيضاً على من جامع حال الإحرام بالحجّ والعمرة قبل التّحلّل الأصغر، على خلافٍ وتفصيلٍ يرجع إليه في المصطلحات التّالية‏:‏ ‏(‏إحرام، وحجّ، وهدي، وصيد‏)‏‏.‏

و- الهدي‏:‏

7 - اتّفق الفقهاء على أنّ الهدي سنّة، ولا يجب إلاّ بالنّذر‏.‏ ويكون من الإبل والبقر والغنم، ولا يجزئ إلاّ الثّنيّ من الإبل، وهو ما كمّل خمس سنين ودخل في السّادسة‏.‏

ففي الصّحيحين‏:‏ «أنّه صلى الله عليه وسلم أهدى في حجّة الوداع مائة بدنةٍ»‏.‏

ويستحبّ أن يكون ما يهديه سميناً حسناً، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائرَ اللّه فإنّها من تَقْوى القلوبِ‏}‏ فسّرها ابن عبّاسٍ بالاستسمان والاستحسان‏.‏ ويستحبّ تقليد البدنة في الهدي‏.‏ وهناك تفصيلات تنظر في مصطلح ‏(‏حجّ، وهدي، وإحرام، وقران، وتمتّع‏)‏‏.‏

ز - ذكاة البدنة‏:‏

8 - تختصّ الإبل - ومنها البدنة - بالنّحر، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى سنّيّة نحر الإبل‏.‏ وذهب المالكيّة إلى وجوب نحرها، وألحقوا بها الزّرافة‏.‏

وأمّا ذبحها، فقد قال بجوازه الشّافعيّة والحنابلة، وكرهه الحنفيّة كراهة تنزيهٍ، على ما نقله ابن عابدين عن أبي السّعود عن الدّيريّ‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ جاز الذّبح في الإبل، والنّحر في غيرها للضّرورة‏.‏ ثمّ النّحر - كما قال ابن عابدين - هو قطع العروق في أسفل العنق عند الصّدر، أمّا الذّبح فقطعها في أعلاه تحت اللّحيين‏.‏ والسّنّة نحرها قائمةً معقولةً يدها اليسرى، لما ورد عن عبد الرّحمن بن سابطٍ‏:‏

«أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمةً على ما بقي من قوائمها» وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا وَجَبَتْ جُنُوبها‏}‏ دليل على أنّها تنحر قائمةً‏.‏ وكيفيّته‏:‏ أن يطعنها بالحربة في الوهدة الّتي بين أصل العنق والصّدر‏.‏

ج - الدّيات‏:‏ الدّية بدل النّفس‏:‏

9 - وقد اتّفق الفقهاء على جواز الدّية في‏:‏ الإبل والذّهب والفضّة، واختلفوا في الخيل والبقر والغنم‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح ‏(‏دية‏)‏‏.‏